الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأجاب: الحمد للَّه رب العالمين، الذى نقل عن النبى صلى الله عليه وسلم من ذلك بعد الصلاة المكتوبة، إنما هو الذكر المعروف؛ كالأذكار التى فى الصحاح، وكتب السنن والمساند، وغيرها، مثل ما فى الصحيح: أنه كان قبل أن ينصرف من الصلاة يستغفر ثلاثاً، ثم يقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام) وفى الصحيح أنه كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، /اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد). وفى الصحيح أنه كان يهلل هؤلاء الكلمات فى دبر المكتوبة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. لا حول ولا قوة إلا باللَّه لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون). وفى الصحيح أن رفع الصوت بالتكبير عقيب انصراف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يعرفون انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وفى الصحيح أنه قال: (من سبح دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد ثلاثاً وثلاثين، وكبر ثلاثاً وثلاثين فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر) وفى الصحيح ـ أيضا ـ أنه يقول: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثاً وثلاثين)، وفى السنن أنواع أخر. والمأثور ستة أنواع: /أحدها: أنه يقول: هذه الكلمات عشراً عشراً: فالمجموع ثلاثون. والثانى: أن يقول كل واحدة إحدى عشر، فالمجموع ثلاث وثلاثون . والثالث: أن يقول كل واحدة ثلاثاً وثلاثين، فالمجموع تسع وتسعون . والرابع: أن يختم ذلك بالتوحيد التام، فالمجموع مائة . والسادس : أن يقول كل واحد من الكلمات الأربع خمساً وعشرين،فالمجموعة مائة. وأما قراءة آية الكرسى، فقد رويت بإسناد لا يمكن أن يثبت به سنة . وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلاة، فلم ينقل هذا أحد عن النبى صلى الله عليه وسلم، ولكن نقل عنه أنه أمر معاذا أن يقول دبر كل صلاة: (اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ونحو ذلك. ولفظ دبر الصلاة قد يراد به آخر جزء من الصلاة. كما يراد بدبر الشئ مؤخره، وقد يراد به ما بعد انقضائها، كما فى قوله تعالى: أحدهما: دعاء المصلى المنفرد، كدعاء المصلى صلاة الاستخارة، وغيرها من الصلوات، ودعاء المصلى وحده، إماما كان أو مأموماً. والثانى: دعاء الإمام والمأمومين جميعاً، فهذا الثانى لا ريب أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يفعله فى أعقاب المكتوبات، كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه، إذ لو فعل ذلك لنقله عنه أصحابه، ثم التابعون، ثم العلماء، كما نقلوا ما هو دون ذلك؛ ولهذا كان العلماء المتأخرون فى هذا الدعاء على أقوال: منهم من يستحب ذلك عقيب الفجر والعصر، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب أبى حنيفة، ومالك وأحمد، وغيرهم، ولم يكن معهم فى ذلك سنة يحتجون بها، وإنما احتجوا بكون هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما. ومنهم من استحبه أدبار الصلوات كلها، وقال: لا يجهر به، إلا إذا قصد التعليم. كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب الشافعى، وغيرهم، وليس معهم فى ذلك سنة، إلا مجرد كون الدعاء مشروعاً، وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة. وهذا الذى ذكروه قد اعتبره الشـارع فى صلب الصلاة، فالدعاء فى آخرهـا قبل الخروج، مشروع مسنون/ بالسنة المتواترة،وباتفاق المسلمين، بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الدعاء فى آخرها واجب،وأوجبوا الدعاء الذى أمر به النبى صلى الله عليه وسلم آخر الصلاة بقوله: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ باللَّه من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) رواه مسلم. وغيره، وكان طاووس يأمر من لم يدع به أن يعيد الصلاة، وهو قول بعض أصحاب أحمد، وكذلك فى حديث ابن مسعود: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه). وفى حديث عائشة وغيرها، أنه كان يدعو فى هذا الموطن، والأحاديث بذلك كثيرة. والمناسبة الاعتبارية فيه ظاهرة. فإن المصلى يناجى ربه، فما دام فى الصلاة لم ينصرف، فإنه يناجى ربه، فالدعاء حينئذ مناسب لحاله، أما إذا انصرف إلى الناس من مناجاة الله، لم يكن موطن مناجاة له، ودعاء. وإنما هو موطن ذكر له، وثناء عليه، فالمناجاة والدعاء حين الإقبال والتوجه إليه فى الصلاة. أما حال الانصراف من ذلك فالثناء والذكر أولى. وكما أن من العلماء من استحب عقب الصلاة من الدعاء ما لم ترد به السنة، فمنهم طائفة تقابل هذه لا يستحبون القعود المشروع بعد الصلاة، ولا يستعملون الذكر المأثور، بل قد يكرهون ذلك، وينهون/ عنه، فهؤلاء مفرطون بالنهى عن المشروع، وأولئك مجاوزون الأمر بغير المشروع، والدين إنما هو الأمر بالمشروع دون غير المشروع. وأما رفع النبى صلى الله عليه وسلم يديه فى الدعاء، فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة، وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث، أو حديثان، لا يقوم بهما حجة. والله أعلم.
فأجاب: الحمد للَّه، أما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلاة، فهو بدعة لم يكن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم، بل إنما كان دعاؤه فى صلب الصلاة. فإن المصلى يناجى ربه، فإذا دعا حال مناجاته له كان مناسبا. وأما الدعاء بعد انصرافه من مناجاته وخطابه، فغير مناسب، وإنما المسنون عقب الصلاة هو الذكر المأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم من التهليل، والتحميد، والتكبير كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول عقب الصلاة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك،/ وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد). وقد ثبت فى الصحيح أنه قال: (من سبح دبر الصلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد ثلاثاً وثلاثين، وكبر ثلاثاً وثلاثين، فذلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، حطت خطاياه) أو كما قال. فهذا ونحوه هو المسنون عقب الصلاة. والله أعلم.
فأجاب: الاجتماع لذكر الله، واستماع كتابه، والدعاء عمل صالح وهو من أفضل القربات والعبادات فى الأوقات. ففى الصحيح عن/ النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن للَّه ملائكة سياحين فى الأرض، فإذا مروا بقوم يذكرون الله، تنادوا هلموا إلى حاجتكم) وذكر الحديث، وفيه (وجدناهم يسبحونك ويحمدونك). لكن ينبغى أن يكون هذا أحياناً فى بعض الأوقات، والأمكنة، فلا يجعل سنة راتبة يحافظ عليها إلا ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم المداومة عليه فى الجماعات: من الصلوات الخمس فى الجماعات، ومن الجمعات، والأعياد، ونحو ذلك. وأما محافظة الإنسان على أوراد له من الصلاة، أو القراءة، أو الذكر، أو الدعاء، طرفى النهار وزلفاً من الليل، وغير ذلك، فهذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحين من عباد الله قديما وحديثاً، فما سن عمله على وجه الاجتماع كالمكتوبات، فعل كذلك. وما سن المداومة عليه على وجه الانفراد من الأوراد، عمل كذلك، كما كان الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ يجتمعون أحياناً، يأمرون أحدهم يقرأ، والباقون يستمعون. وكان عمر بن الخطاب يقول: يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون، وكان من الصحابة من يقول: اجلسوا بنا نؤمن ساعة، وصلى النبى صلى الله عليه وسلم بأصحابه التطوع فى جماعة مرات، وخرج على الصحابة من أهل الصفة، وفيهم قارئ يقرأ، فجلس معهم يستمع. /وما يحصل عند السماع والذكر المشروع من وجل القلب، ودمع العين، واقشعرار الجسوم، فهذا أفضل الأحوال التى نطق بها الكتاب والسنة. وأما الاضطراب الشديد، والغشى والموت والصيحات، فهذا إن كان صاحبه مغلوبا عليه، لم يُلَم عليه، كما قد كان يكون فى التابعين ومن بعدهم. فإن منشأه قوة الوارد على القلب مع ضعف القلب. والقوة، والتمكن أفضل، كما هو حال النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة، وأما السكون، قسوة وجفاء، فهذا مذموم لا خير فيه. وأما ما ذكر من السماع، فالمشروع الذى تصلح به القلوب، ويكون وسيلتها إلى ربها بصلة ما بينه وبينها، هو سماع كتاب الله الذى هو سماع خيار هذه الأمة، لاسيما وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وقال: (زَيِّنوا القرآن بأصواتكم) وهو السماع الممدوح فى الكتاب والسنة. لكن لما نسى بعض الأمة حظاً من هذا السماع الذى ذكروا به، ألقى بينهم العداوة والبغضاء، فأحدث قوم سماع القصائد والتصفيق والغناء مضاهاة لما ذمه الله من المكاء والتصدية، والمشابهة لما ابتدعه النصارى. وقابلهم قوم قست قلوبهم عن ذكر الله، وما نزل من الحق، وقست قلوبهم فهى كالحجارة أو أشد قسوة مضاهاة لما عابه الله على اليهود. والدين الوسط هو ما عليه خيار هذه الأمة قديماً وحديثاً. والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد للَّه، الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة ـ كالاجتماعات المشروعة ـ ولا اقترن به بدعة منكرة. وأما كشف الرأس مع ذلك، فمكروه، لاسيما إذا اتخذ على أنه عبادة، فإنه حينئذ يكون منكراً، ولا يجوز التعبد بذلك. والله أعلم.
فأجاب: الحمد للَّه رب العالمين، ليس هذا كفر، فإن هذا الدعاء وأمثاله يقصد به التحصن والتحرز بهذه الكلمات، فيتقى بها من الشر كما يتقى ساكن البيت بالبيت من الشر والحر والبرد والعدو. وهذا كما جاء فى الحديث المعروف عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الكلمات الخمس التى قام يحيى ابن زكريا فى بنى إسرائىل قال: أوصيكم بذكر الله، فإن مثل ذلك مثل رجل طلبه العدو فدخل حصناً، فامتنع به من العدو، فكذلك ذكر الله، هو حصن ابن آدم من الشيطان، أو كما قال. فشبه ذكر الله فى امتناع الإنسان به من الشيطان بالحصن الذى يمتنع به من العدو. والحصن له باب وسقف وحيطان. ونحو هذا، أن الأعمال الصالحة من ذكر الله وغيره تسمى جنة ولباساً. كما قال تعالى: ولكن هذا الدعاء المسؤول عنه ليس بمأثور، والمشروع للإنسان أن يدعو بالأدعية المأثورة؛ فإن الدعاء من أفضل العبادات، وقد نهانا الله عن الاعتداء فيه، فينبغى لنا أن نتبع فيه ما شرع، وسن، كما أنه ينبغى لنا ذلك فى غيره من العبادات، والذى يعدل عن الدعاء المشروع إلى غيره ـ وإن كان من أحزاب بعض المشائخ ـ الأحسن له ألا يفوته الأكمل الأفضل، وهى الأدعية النبوية، فإنها أفضل وأكمل باتفاق المسلمين من الأدعية التى ليست كذلك، وإن قالها بعض الشيوخ، فكيف يكون فى عين الأدعية ما هو خطأ أو إثم أو غير ذلك. ومن أشد الناس عيباً من يتخذ حزبا ليس بمأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان حزبا لبعض المشايخ ـ ويدع الأحزاب النبوية التى كان يقولها سيد بنى آدم، وإمام الخلق، وحجة الله على عباده. والله أعلم.
وَقَال شيخ الإسلام ـ قدسَ الله روحه : فى بيان ما أمر الله به ورسوله من إقام الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها: قال الله تعالى ـ فى غير موضع من كتابه ـ: وقد أخرج البخارى ومسلم فى الصحيحين وأخرج أصحاب السنن ـ أبو داود والترمذى، والنسائى، وابن ماجه ـ وأصحاب المسانيد: كمسند أحمد وغير ذلك من أصول الإسلام عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل، ثم جاء فسلم على النبى صلى الله عليه وسلم. فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه السلام. وقال: (ارجع فصل، فإنك لم تصل). فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم سلم عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعليك السلام)، ثم قال: (ارجع فصل، فإنك لم تصل)، حتى فعل ذلك ثلاث مرات. فقال الرجل: والذى بعثك بالحق ما أحسن غير هذا، فعلمنى. قال: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك فى صلاتك كلها). وفى رواية للبخارى: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً،/ثم ارفع حتى تستوى وتطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوى قائما، ثم افعل ذلك فى صلاتك كلها). وفى رواية له: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوى قائماً) وباقيه مثله. وفى رواية: (وإذا فعلت هذا، فقد تمت صلاتك. وما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك). وعن رفاعة بن رافع ـ رضى الله عنه ـ: أن رجلا دخل المسجد... فذكر الحديث وقال فيه: فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر ويحمد الله ـ عز وجل ـ ويثنى عليه، ويقرأ بما شاء من القرآن ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى يطمئن راكعاً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يرفع رأسه حتى يستوى قائما، ثم يسجد حتى يطمئن ساجداً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يرفع رأسه حتى يستوى قاعداً ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيَكبر. فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته) وفى رواية: (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء، كما أمر الله ـ عز وجل ـ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين. ثم يكبر الله ويحمده، ثم يقرأ مـن القــرآن ما أذن له وتيسر ـ وذكر نحو اللفظ الأول، وقال ـ: ثم يكبر، فيسجد، فيمكن وجهه ـ وربما قال: جبهته ـ من الأرض، حتى تطمئن مفاصله وتسترخى،/ثم يكبر فيستوى قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه ـ فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ، ثم قال ـ: لا تتم صلاة لأحدكم حتى يفعل ذلك) رواه أهل السنن: أبو داود والنسائى وابن ماجه والترمذى. وقال: حديث حسن. والروايتان لفظ أبى داود. وفى رواية ثالثة له: قال: (إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن، وبما شاء الله أن تقرأ. فإذا ركعت، فضع راحتك على ركبتيك وامدد ظهرك). وقال: (إذا سجدت فمكن لسجودك، فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى) ، وفى رواية أخرى قال: (إذا أنت قمت فى صلاتك فكبر الله ـ عز وجل ـ ثم اقرأ ما تيسر عليك من القرآن) وقال فيه: (فإذا جلست فى وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد، ثم إذا قمت فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك) وفى رواية أخرى قال: (فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهد فأتم، ثم كبر. فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله ـ عز وجل ـ وكبره وهلله). وقال فيه: (وإن انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك). فالنبى صلى الله عليه وسلم أمر ذلك المسىء فى صلاته بأن يعيد الصلاة. وأمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب، وأمره/ إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة كما أمره بالركوع والسجود. وأمره المطلق على الإيجاب. وأيضاً، قال له: (فإنك لم تصل) فنفى أن يكون عمله الأول صلاة، والعمل لا يكون منفياً إلا إذا انتفى شىء من واجباته. فأما إذا فعل كما أوجبه الله ـ عز وجل ـ فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شىء من المستحبات التى ليست بواجبة. وأما ما يقوله بعض الناس: إن هذا نفى للكمال، كقوله: (لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد)، فيقال له: نعم هو لنفى الكمال، لكن لنفى كمال الواجبات أو لنفى كمال المستحبات؟ فأما الأول فحق. وأما الثانى، فباطل، لا يوجد مثل ذلك فى كلام الله ـ عز وجل ـ ولا فى كلام رسوله قط، وليس بحق. فإن الشىء إذا كملت واجباته، فكيف يصح نفيه؟! وأيضاً، فلو جاز لجاز نفى صلاة عامة الأولين والآخرين؛ لأن كمال المستحبات من أندر الأمور. وعلى هذا، فما جاء من نفى الأعمال فى الكتاب والسنة، فإنما هو لانتفاء بعض واجباته. كقوله تعالى: ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، و(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، و(لا صلاة إلا بوُضوء). وأما قوله: (لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد): فهذا اللفظ قد قيل: إنه لا يحفظ عن النبى صلى الله عليه وسلم. وذكر عبد الحق الإشْبِيلى: أنه رواه بإسناد كلهم ثقات، وبكل حال فهو مأثور عن على ـ رضى الله عنه ـ ولكن نظيره فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له). ولا ريب أن هذا يقتضى أن إجابة المؤذن المنادى، والصلاة فى جماعة: من الواجبات، كما ثبت فى الصحيح: أن ابن أم مكتوم قال:/ يا رسول الله، إنى رجل شاسع الدار، ولى قائد لا يلائمنى. فهل تجد لى رُخْصَة أن أصلى فى بيتى؟ قال: (هل تسمع النداء؟) قال: نعم، قال: (ما أجد لك رخصة)، لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه، ويثاب على ما فعله من الصلاة، أم يقال: إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يفعلها؟ هذا فيه نزاع بين العلماء. وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك، وما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك). فقد بين أن الكمال الذى نفى هو هذا التمام الذى ذكره النبى صلى الله عليه وسلم؛ فإن التارك لبعض ذلك قد انتقص من صلاته بعض ما أوجبه الله فيها. وكذلك قوله فى الحديث الآخر: (فإذا فعل هذا فقد تمت صلاته). ويؤيد هذا: أنه أمره بأن يعيد الصلاة. ولو كان المتروك مستحباً لم يأمره بالإعادة؛ ولهذا يؤمر مثل هذا المسىء بالإعادة، كما أمـر النبى صلى الله عليه وسلم هذا، لكن لو لم يعد وفعلها ناقصة، فهل يقال: إن وجودها كعدمها، بحـيث يعاقب على تركها؟ أو يقال: إنه يثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه، بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوع؟ هذا فيه نزاع. والثانى أظهـر؛ لما روى أبو داود وابن ماجه عن أنس بن حكيم الضَّبِّىّ قال: خاف/ رجل من زياد ـ أو ابن زياد ـ فأتى المدينة، فلقى أبا هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال: فنسبنى، فانتسبت له، فقال: يا فتى، ألا أحدثك حديثاً؟ قال: قلت: بلى يرحمك الله ـ قال يونس: فأحسبه ذكره عن النبى صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة). قال: (يقول ربنا عز وجل لملائكته، وهو أعلم: انظروا فى صلاة عبدى، أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا، هل لعبدى من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموها من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم). وفى لفظ عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله: صلاته، فإن صَلُحَتْ فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر. فإن انتقص من فريضته شيئاً قال الرب: انظروا، هل لعبدى من تطوع؟ فكمل به ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر أعماله على هذا) رواه الترمذى وقال: (حديث حسن). وروى ـ أيضا ـ أبو داود وابن ماجه عن تميم الدَّارِىّ ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى قال: (ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك). وأيضاً، فعن أبى مسعود البدرى ـ رضى الله عنه ـ قال: قــال رســول الله /صلى الله عليه وسلم: (لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره فى الركوع والسجود) رواه أهل الســنن الأربعة، وقال الترمذى: [حديث حسن صحيح]. فهذا صريح فى أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع وينتصب من السجود. فهذا يدل على إيجاب الاعتدال فى الركوع والسجود. وهذه المسألة ـ وإن لم تكن هى مسألة الطمأنينة ـ فهى تناسبها وتلازمها؛ وذلك أن هذا الحديث نص صريح فى وجوب الاعتدال. فإذا وجب الاعتدال لإتمام الركوع والسجود، فالطمأنينة فيهما أوجب. وذلك أن قوله: (يقيم ظهره فى الركوع والسجود) أى: عند رفعه رأسه منهما. فإن إقامة الظهر تكون من تمام الركوع والسجود؛ لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحنى إلى أن يعود فيعتدل، ويكون السجود من حين الخرور من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل. فالخفض والرفع هما طرفا الركوع والسجود وتمامهما؛ فلهذا قال: (يقيم صلبه فى الركوع والسجود). ويبين ذلك أن وجوب هذا من الاعتدالين كوجوب إتمام الركوع والسجود، وهذا كقوله فى الحديث المتقدم: (ثم يكبر فيسجد، /فيمكن وجهه حتى تطمئن مفاصله وتسترخى، ثم يكبر فيستوى قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه). فأخبر أن إقامة الصلب فى الرفع من السجود لا فى حال الخفض. والحديثان المتقدمان بين فيهما وجوب هذين الاعتدالين ووجوب الطمأنينة؛ لكن قال فى الركوع والسجود والقعود: (حتى تطمئن راكعاً، وحتى تطمئن ساجداً، وحتى تطمئن جالساً). وقال فى الرفع من الركوع: (حتى تعتدل قائماً، وحتى تستوى قائماً)؛ لأن القائم يعتدل ويستوى، وذلك مستلزم للطمأنينة. وأما الراكع والساجد فليسا منتصبين. وذلك الجالس لا يوصف بتمام الاعتدال والاستواء؛ فإنه قد يكون فيه انحناء إما إلى أحد الشقين ـ ولا سيما عند التورك ـ وإما إلى أمامه؛ لأن أعضاءه التى يجلس عليها منحنية غير مستوية ومعتدلة، مع أنه قد روى ابن ماجه: أنه صلى الله عليه وسلم قال فى الرفع من الركوع: (حتى تطمئن قائما). وعن على بن شَيْبَان الحنفى قال: خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه وصلينا خلفه، فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلاته ـ يعنى: صلبه فى الركوع والسجود ـ فلما قضى النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: (يا معشر المسلمين، لا صلاة / لمن لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود) رواه الإمام أحمد وابن ماجه. وفى رواية للإمام أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده). وهذا يبين أن إقامة الصلب هى الاعتدال فى الركوع، كما بيناه، وإن كان طائفة من العلماء من أصحابنا وغيرهم فسروا ذلك بنفس الطمأنينة، واحتجوا بهذا الحديث على ذلك وحده، لا على الاعتدالين، وعلى ما ذكرناه فإنه يدل عليهما. وروى الإمام أحمد فى المسند عن أبى قتادة ـ رضى الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذى يسرق من صلاته). قالوا: يا رسول الله، كيف يسرق من صلاته؟ قال: (لا يتم ركوعها ولا سجودها) أو قال: (لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود)، وهذا التردد فى اللفظ ظاهره: أن المعنى المقصود من اللفظين واحد، وإنما شك فى اللفظ. كما فى نظائر ذلك. وأيضا، فعن عبد الرحمن بن شِبْل ـ رضى الله عنه ـ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نَقْر الغراب وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان فى المسجد، كما يوطن البعير. أخرجه أبو داود والنسائى وابن ماجه. /وإنما جمع بين الأفعال الثلاثة ـ وإن كانت مختلفـة الأجناس ـ لأنه يجمعها مشابهة البهائم فى الصلاة، فنهى عن مشابهة فعل الغراب، وعما يشبه فعل السبع، وعما يشبه فعل البعير، وإن كان نقر الغراب أشد من ذينك الأمرين، لما فيه من أحاديث أخر. وفى الصحيحين عن قتادة عن أنس ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (اعتدلوا فى الركوع والسجود، ولايبسطن أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)، لا سيما وقد بين فى حديث آخر: (أنه من صلاة المنافقين)، والله ـ تعالى ـ أخبر فى كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين. فروى مسلم فى صحيحه عن أنس بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تلك صلاة المنافق، يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قَرْنَى شيطان قام فنقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلا)، فأخبر أن المنافق يضيع وقت الصلاة المفروضة، ويضيع فعلها وينقرها، فدل ذلك على ذم هذا وهذا، وإن كان كلاهما تاركا للواجب. وذلك حجة واضحة فى أن نقر الصلاة غير جائز، وأنه من فِعْل من فيه نفاق. والنفاق كله حرام. وهذا الحديث حجة مستقلة بنفسها، وهو مفسر لحديث قبله. وقال الله تعالى: والمثل الذى ضربه النبى صلى الله عليه وسلم من أحسن الأمثال، فإن الصلاة قُوتُ القلوب، كما أن الغذاء قوت الجسد، فإذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل، فالقلب لا يقتات بالنقر فى الصلاة، بل لابد من صلاة تامة تقيت القلوب. وأما ما يرويه طوائف من العامة: أن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ رأى رجلا ينقر فى صلاته فنهاه عن ذلك. فقال: لو نقر الخطاب من هذه نقرة لم يدخل النار، فسكت عنه عمر، فهذا لا أصل له، ولم يذكره أحد من أهل العلم فيما بلغنى، لا فى الصحيح ولا فى الضعيف. والكذب ظاهر عليه؛ فإن المنافقين قد نقروا أكثر من ذلك، وهم فى الدرك الأسفل من النار. وأيضاً، فعن أبى عبد الله الأشعرى الشامى قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ثم جلس فى طائفة منهم، فدخل رجل فقام يصلى، فجعل يركع وينقر فى سجوده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه. فقال: (ترون هذا؟ لو مات مات على غير ملة محمد، ينقر صلاته كما ينقر الغراب الرِّمَّة. إنما مثل الذى يصلى ولا يتم ركوعه وينقر فى سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين،/ لا تغنيان عنه شيئاً، فأسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار، وأتموا الركوع والسجود). قال أبو صالح: فقلت لأبى عبد الله الأشعرى: من حدثك بهذا الحديث؟ قال: أمراء الأجناد: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وشُرَحْبِيل بن حسنة ويزيد بن أبى سفيان. كل هؤلاء يقولون: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو بكر بن خزيمة فى صحيحه بكماله، وروى ابن ماجه بعضه. وأيضا، ففى صحيح البخارى عن أبى وائل، عن زيد بن وهب، أن حذيفة بن اليمان ـ رضى الله عنه ـ رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده. فلما قضى صلاته دعاه، وقال له حذيفة: ما صليت، ولو مِتَّ مِتَّ على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم. ولفظ أبى وائل: ما صليت. وأحسبه قال: لو/ مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا الذى لم يتم صلاته إنما ترك الطمأنينة، أو ترك الاعتدال، أو ترك كليهما، فإنه لابد أن يكون قد ترك بعض ذلك، إذ نقر الغراب والفصل بين السجدتين بحد السيف، والهبوط من الركوع إلى السجود لا يمكن أن ينقص منه مع الإتيان بما قد يقال: إنه ركوع أو سجود. وهذا الرجل كان يأتى بما قد يقال له: ركوع وسجود، لكنه لم يتمه. ومع هذا قال له حذيفة: (ما صليت) فنفى عنه الصلاة، ثم قال: (لو/ مت مت على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم) و(على غير السنة) وكلاهما المراد به هنا: الدين والشريعة، ليس المراد به فعل المستحبات؛ فإن هذا لا يوجب هذا الذم والتهديد. فلا يكاد أحد يموت على كل ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم من المستحبات. ولأن لفظ [الفطرة والسنة] فى كلامهم هو الدين والشريعة. وإن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ [السنة] يراد به ما ليس بفرض، إذ قد يراد بها ذلك، كما فى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه). فهى تتناول ما سنه من الواجبات أعظم مما سنه من التطوعات. كما فى الصحيح عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال: إن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإن هذه الصلوات فى جماعة من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم فى بيوتكم، كما يصلى هذا المتخلف فى بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذ). ولأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر فى كتابه بإقامة الصلاة،وذم المصلين الساهين عنها المضيعين لها، فقال تعالى فى غير موضع: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} وإقامتها: تتضمن إتمامها بحسب الإمكان، كما سيأتى فى حديث أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال: (أقيموا الركوع والسجود، فإنى أراكم من بعد ظهرى)، وفى رواية: (أتموا الركوع والسجود) وسيأتى تقرير دلالة ذلك. والدليل على ذلك من القرآن: أنه ـ سبحانه وتعالى ـ قال: وفى هذه الصلاة تفريق المأمومين ومفارقة الأولين للإمام، وقيام الآخرين قبل سلام الإمام، ويتمون لأنفسهم ركعة. ثم قال تعالى: وأما قوله فى صلاة الخوف: وثبتت السنة أن الصلاة مشروعة فى السفر تامة؛ لأنه بذلك أمر الناس، ليست مقصورة فى الأجر والثواب، وإن كانت مقصورة فى الصفة والعمل، إذ المصلى يؤمر بالإطالة تارة، ويؤمر بالاقتصار تارة. وأيضاً، فإن الله تعالى قال: ومن المعلوم أن ذكر القيام ـ الذى هو القراءة ـ أفضل من ذكر الركوع والسجود، ولكن نفس عمل الركوع والسجود أفضل من عمل القيام؛ ولهذا كان عبادة بنفسه. ولم يصح فى شرعنا إلا للَّه بوجه من الوجوه، وغير ذلك من الأدلة المذكورة فى غير هذا الموضع. وإذا كان كذلك، فمن المعلوم أن هذه الأفعال مقدرة محدودة بقدر التمكن منها. فالساجد: عليه أن يصل إلى الأرض، وهو غاية التمكن، ليس له غاية دون ذلك إلا لعذر، وهو من حين انحنائه أخذ فى السجود، سواء سجد من قيام أو من قعود. فينبغى أن يكون ابتداء السجود مقدراً بذلك، بحيث يسجد من قيام أو قعود، لا/ يكون سجوده من انحناء، فإن ذلك يمنع كونه مقدراً محدوداً بحسب الإمكان. ومتى وجب ذلك وجب الاعتدال فى الركوع وبين السجدتين. وأيضاً، ففى ذلك إتمام الركوع والسجود. وأيضاً، فأفعال الصلاة إذا كانت مقدرة وجب أن يكون لها قدر، وذلك هو الطمأنينة. فإن من نَقَر نَقْر الغراب لم يكن لفعله قدر أصلا، فإن قدر الشىء ومقداره فيه زيادة على أصل وجوده؛ ولهذا يقال للشىء الدائم: ليس له قدر، فإن القدر لا يكون لأدنى حركة، بل لحركة ذات امتداد. وأيضاً، فإن اللّه ـ عز وجل ـ أمرنا بإقامتها، والإقامة: أن تجعل قائمة، والشىء القائم: هو المستقيم المعتدل، فلا بد أن تكون أفعال الصلاة مستقرة معتدلة. وذلك إنما يكون بثبوت أبعاضها واستقرارها. وهذا يتضمن الطمأنينة، فإن من نَقَر نَقْر الغراب لم يقم السجود، ولا يتم سجوده إذا لم يثبت ولم يستقر، وكذلك الراكع. يبين ذلك ما جاء في الصحيحين عن قتادة، عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنهما ـ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (سَوُّوا صفوفكم؛ فإن تسوية الصف من تمام الصلاة). وأخرجاه من حديث/عبد العزيز بن صُهَيْب عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (أتموا الصفوف، فإني أراكم من خلف ظهري)، وفي لفظ: (أقيموا الصفوف). وروى البخاري من حديث حميد عن أنس، قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: (أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري). وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وبدنه ببدنه). فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها، بحيث لو خرجوا عن الاستواء والاعتدال بالكلية حتى يكون رأس هذا عند النصف الأسفل من هذا، لم يكونوا مصطفين، ولكانوا يؤمرون بالإعادة وهم بذلك أولى من الذي صلى خلف الصف وحده، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد صلاته، فكيف بتقويم أفعالها وتعديلها، بحيث لا يقيم صلبه في الركوع والسجود. ويدل على ذلك ـ وهو دليل مستقل في المسألة ـ ما أخرجاه في الصحيحين عن شعبة عن قتادة عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أقيموا الركوع والسجود، فواللّه إني لأراكم من بعدي ـ وفي رواية: من بعد ظهري ـ إذا ركعتم وسجدتم). وفي رواية للبخاري عن همام، عن قتادة، عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أتموا الركوع/والسجود، فوالذي نفسى بيده، إني لأراكم من بعد ظهري إذا ماركعتم وإذا ما سجدتم). ورواه مسلم من حديث هشام الدَّسْتُوَائي، وابن أبي عَرُوبَة عن قتادة عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ أن نبي اللّه صلى الله عليه وسلم قال: (أتموا الركوع والسجود ـ ولفظ ابن أبي عَرُوَبة: أقيموا الركوع والسجود، فإني أراكم ـ وذكره). فهذا يبين أن إقامة الركوع والسجود توجب إتمامهما، كما في اللفظ الآخر. وأيضًا، فأمره لهم بإقامة الركوع والسجود يتضمن السكون فيهما؛ إذ من المعلوم أنهم كانوا يأتون بالانحناء في الجملة؛ بل الأمر بالإقامة يقتضي ـ أيضًا ـ الاعتدال فيهما، وإتمام طرفيهما، وفي هذا رد على من زعم أنه لا يجب الرفع فيهما، وذلك أن هذا أمر للمأمومين خلفه. ومن المعلوم أنه لم يكن يمكنهم الانصراف قبله. وأيضًا، فقوله تعالى: فإذا كان ذلك كذلك، فقوله تعالى: وإذا ثبت وجوب هذا ثبت وجوب الطمأنينة في سائر الأفعال بطريق الأولى. ويقوي الوجه الأول حديث زيد بن أرقم الذي في الصحيحين عنه قال: كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه إلى الصلاة، فنزلت: وأيضًا، فإنه ـ سبحانه ـ قال: ومعلوم أن قراءة القرآن في الصلاة هي تذكير بالآيات، ولذلك وجب السجود مع ذلك. وقد أوجب خرورهم سجدًا، وأوجب تسبيحهم بحمد ربهم، وذلك يقتضي وجوب التسبيح في السجود، وهذا يقتضي وجوب الطمأنينة، ولهذا قال طائفة من العلماء، من أصحاب أحمد وغيرهم: إن مقدار الطمأنينة الواجبة مقدار التسبيح الواجب عندهم. والثاني: أن الخرور هو السقوط والوقوع، وهذا إنما يقال فيما يثبت ويسكن لا فيما لا يوجد منه سكون على الأرض، ولهذا قال/ اللّه: وأيضًا، فعن عقبة بن عامر ـ رضي اللّه عنه ـ قال: لما نزلت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم). ولما نزلت: ثم إن من الفقهاء من قد يقول: التسبيح ليس بواجب، وهذا القول يخالف ظاهر الكتاب والسنة، فإن ظاهرهما يدل على وجوب الفعل والقول جميعًا، فإذا دل دليل على عدم وجوب القول، لم يمنع وجوب الفعل. وأما من يقول بوجوب التسبيح؛ فيستدل لذلك بقوله تعالى: وإذا كان اللّه ـ عز وجل ـ قد سمى الصلاة تسبيحًا، فقد دل ذلك على وجوب التسبيح، كما أنه لما سماها قياما في قوله تعالى: وذلك أن تسميتها بهذه الأفعال دليل على أن هذه الأفعال لازمة لها، فإذا وجدت هذه الأفعال فتكون من الأبعاض اللازمة، كما أنهم يسمون الإنسان بأبعاضه اللازمة له. فيسمونه رقبة ورأسًا ووجهًا، ونحو ذلك. كما في قوله تعالى: وأيضًا، فإن اللّه ـ عز وجل ـ ذم عموم الإنسان واستثنى المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، قال تعالى: وأيضًا، فإنه سبحانه وتعالى ـ قال: فعلم أنه كما تجب الصلاة يجب الدوام عليها، المتضمن للطمأنينة والسكينة في أفعالها. وأيضًا، فقد قال اللّه تعالى: وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين، كقوله تعالى: فقد دل كتاب اللّه ـ عز وجل ـ على من كبر عليه ما يحبه اللّه، وأنه مذموم بذلك في الدين، مسخوط منه ذلك، والذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب، أو فعل محرم، وإذا كان غير الخاشعين مذمومين، دل ذلك على وجوب الخشوع. فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قوله تعالى: ويـدل على وجوب الخشوع فيها ـ أيضًا ـ قوله تعالى: ومنه حديث عمر ـ رضي اللّه عنه ـ حيث رأي رجلاً يعبث في صلاته. فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.أي: لسكنت/وخضعت. وقال تعالى: ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حال ركوعه: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت. خشع لك سمعي وبصري ومُخِّي وعقلي وعصبي) رواه مسلم في صحيحه. فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع؛ لأن الراكع ساكن متواضع. وبذلك فسرت الآية. ففي التفسير المشهور، الذي يقال له تفسير الوالبي عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقد رواه المصنفون في التفسير، كأبي بكر بن المنذر، ومحمد بن جرير الطبري، وغيرهما من حديث أبي صالح عبد اللّه بن صالح عن معاوية بن أبي صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ـ قوله تعالى: وفي تفسير ابن المنذر ـ أيضًا ـ ما في تفسير إسحاق بن راهويه، عن روح، حدثنا سعيد عن قتادة: وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبًا، وهو متضمن للسكون والخشوع، فمن نَقَر نَقْر الغراب لم يخشع في سجوده. وكذلك من لم يرفع رأسه من الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن؛ لأن السكون هو الطمأنينة بعينها. فمن لم يطمئن لم يسكن، ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده، ومن لم يخشع كان آثمًا عاصيًا، وهو الذي بيناه. ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة: أن النبي صلى الله عليه وسلم تَوَعَّد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء، فإنه حركته ورفعه، وهو ضد حال الخاشع. فعن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (مابال أقوام يرفعون أبصارهم في صلاتهم؟ فاشتد قوله في ذلك. فقال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم). وعن جابر بن سَمُرَة قال: دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المسجد، وفيه ناس يصلون رافعي أبصارهم إلى السماء. فقال: (لينتهين رجال يشخصون أبصارهم إلى السماء، أو لا ترجع إليهم أبصارهم). / الأول في البخاري، والثاني في مسلم. وكلاهما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه. وقال محمد بن سيرين: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يرفع بصره في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية: وأما الالتفات لغير حاجة، فهو ينقص الخشوع ولا ينافيه؛ فلهذا كان ينقص الصلاة، كما روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة؟ فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد). وروى أبو داود والنسائي عن أبي الأحوص، عن أبي ذر ـ رضي اللّه عنه ـ قال: قال رسول اللّه: (لا يزال اللّه مقبلاً على العبد، وهو في صلاته، ما لم يلتفت. فإذا التفت انصرف عنه). وأما لحاجة فلا بأس به، كما روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال: ثوب الصلاة ـ يعني: صلاة الصبح ـ فجعل رسول اللّه/صلى الله عليه وسلم يصلي، وهو يلتفت إلى الشعب. قال أبو داود: وكان أرسل فارسًا إلى الشعب من الليل يحرس. وهذا كحمله أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، من زينب بنت رسول اللّه. وفتحه الباب لعائشة، ونزوله من المنبر لما صلى بهم يعلمهم، وتأخره في صلاة الكسوف، وإمساكه الشيطان وخنقه لما أراد أن يقطع صلاته، وأمره بقتل الحية والعقرب في الصلاة، وأمره برد المار بين يدي المصلي ومقاتلته، وأمره النساء بالتصفيق، وإشارته في الصلاة، وغير ذلك من الأفعال التي تفعل لحاجة، ولو كانت لغير حاجة كانت من العبث المنافي للخشوع المنهي عنه في الصلاة. ويـدل على ذلك ـ أيضًا ـ ما رواه تميم الطائي عن جابر بن سَمُرَة ـ رضي اللّه عنه ـ قال: دخل علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والناس رافعوا أيديهم ـ قال الراوي ـ وهو زهير بن معاوية ـ وأراه قال في الصلاة ـ فقال: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خَيْل شُمْس، اسكنوا في الصـلاة) رواه مسلم وأبو داود والنسائي. ورووا ـ أيضًا ـ عن عبيد الله ابن القبطية عن جابر بن سَمُرَة ـ رضي اللّه عنه ـ قال كنا إذا صلينا خلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسلم أحـدنا أشار بيده من عن يمينه، ومن عن يساره. فلما صلى قال: (ما بال أحدكم يومئ بيده، كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفي أحدكم ـ أو ألا يكفي أحدكم ـ/أن يقول: هكذا ـ وأشار بأصبعه ـ يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله). وفي رواية قال: (أما يكفي أحدكم ـ أو أحدهم ـ أن يضع يده علي فخذه، ثم يسلم على أخيه من عن يمينه، ومن عن شماله). ولفظ مسلم: صلينا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم. فنظر إلينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: (ما شأنكم؟ تشيرون بأيديكم، كأنها أذناب خَيْلٍ شُمْس؟ إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يؤمئ بيده). فقد أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالسكون في الصلاة، وهذا يقتضي السكون فيها كلها، والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة. فمن لم يطمئن لم يسكن فيها، وأمره بالسكون فيها موافق لما أمر اللّه تعالى به من الخشوع فيها، وأحق الناس باتباع هذا هم أهل الحديث. ومن ظن أن نهيه عن رفع الأيدي هو النهي عن رفعها إلى منكبه حين الركوع وحين الرفع منه، وحمله على ذلك فقد غلط؛ فإن الحديث جاء مفسرًا بأنهم كانوا إذا سلموا في الصلاة سلام التحليل، أشاروا بأيديهم إلى المسلم عليهم من عن اليمين ومن عن الشمال. ويبين ذلك قوله: (مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل/ شمس؟) و [الشُمْس] جمع شَمُوس، وهو الذي تقول له العامة الشَّمُوص، وهو الذي يحرك ذنبه ذات اليمين وذات الشمال، وهي حركة لا سكون فيها. وأما رفع الأيدي عند الركوع وعند الرفع بمثل رفعها عند الاستفتاح، فذلك مشروع باتفاق المسلمين. فكيف يكون الحديث نهيًا عنه؟ وقوله: (اسكنوا في الصلاة) يتضمن ذلك؛ ولهذا صلى بعض الأئمة الذين لم يكونوا يرون هذا الرفع إلى جنب عبد اللّه بن المبارك، فرفع ابن المبارك يديه، فقال له: (أتريد أن تطير؟) فقال: (إن كنت أطير في أول مرة، فأنا أطير في الثانية، وإلا فلا) وهذا نقض لما ذكره من المعنى. وأيضًا، فقد تواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذا الرفع فلا يكون نهيًا عنه، ولا يكون ذلك الحديث معارضًا، بل لو قد تعارضا. فأحاديث هذا الرفع كثيرة متواترة، ويجب تقديمها على الخبر الواحد لو عارضها، وهذا الرفع فيه سكون. فقوله: (اسكنوا في الصلاة) لا ينافي هذا الرفع، كرفع الاستفتاح وكسائر أفعال الصلاة، بل قوله: (اسكنوا) يقتضي السكون في كل/ بعض من أبعاض الصلاة، وذلك يقتضي وجوب السكون في الركوع والسجود والاعتدالين. فبين هذا أن السكون مشروع في جميع أفعال الصلاة بحسب الإمكان؛ ولهذا يسكن فيها في الانتقالات التي منتهاها إلى الحركة؛ فإن السكون فيها يكون بحركة معتدلة لا سريعة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في المشي إليها. وهي حركة إليها، فكيف بالحركة فيها؟ فقال: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها تسعون، وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصَلُّوا، وما فاتكم فاقضوا). وهذا ـ أيضًا ـ دليل مستقل في المسألة، فعن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وائتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه. قال أبو داود ـ وكذلك قال الترمذي ـ وابن أبي ذئب، وإبراهيم بن سعد، ومَعْمَر، وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري: (وما فاتكم فأتموا). وقال ابن عيينة عن الزهري: (فاقضوا). قال محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ وجعفر ابن أبي ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة: (فأتموا)، وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فأتموا)، وروى أبو داود عن أبي/هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ائتوا الصلاة وعليكم السكينة، فصلوا ما أدركتم، واقضوا ما سبقكم). قال أبو داود: وكذا قال ابن سِيرين عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ: (وليقض). وكذلك قال أبو رافع عن أبي هريرة، وأبو ذر ـ رضي اللّه عنه ـ روى عنه: (فأتموا، واقضوا) اختلف عنه. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالسكينة حال الذهاب إلى الصلاة، ونهي عن السعي الذي هو إسراع في ذلك، لكونه سببًا للصلاة ـ فالصلاة أحق أن يؤمر فيها بالسكينة، وينهي فيها عن الاستعجال، فعلم أن الراكع والساجد مأمور بالسكينة، منهي عن الاستعجال بطريق الأولى والأحرى، لاسيما وقد أمره بالسكينة بعد سماع الإقامة الذي يوجب عليه الذهاب إليها، ونهاه أن يشتغل عنها بصلاة تطوع، وإن أفضى ذلك إلى فوات بعض الصلاة، فأمره بالسكينة وأن يصلي ما فاته منفردًا بعد سلام الإمام، وجعل ذلك مقدمًا على الإسراع إليها. وهذا يقتضي شدة النهي عن الاستعجال إليها، فكيف فيها؟ يبين ذلك ما روى أبو داود عن أبي ثُمَامَة الحناط، عن كعب بن عُجْرَة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن يديه، فإنه في صلاة). فقد نهاه صلى الله عليه وسلم في مشيه إلى الصلاة عما/نهاه عنه في الصلاة من الكلام والعمل له منفردًا، فكيف يكون حال المصلي نفسه في ذلك المشي وغير ذلك؟ فإذا كان منهيًا عن السرعة والعجلة في المشي، مأمورًا بالسكينة، وإن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلي قاضيًا له، فأولى أن يكون مأمورًا بالسكينة فيها. ويدل على ذلك: أن اللّه ـ عز وجل ـ أمر في كتابه بالسكينة والقصد في الحركة والمشي مطلقًا، فقال: وأيضًا، فإن اللّه ـ تعالى ـ أوجب الركوع والسجود في الكتاب/والسنة، وهو واجب بالإجماع لقوله تعالى: فدل على أن الذي لا يسجد للّه من الناس، قد حق عليه العذاب، وقوله: وإذا كان اللّه ـ عز وجل ـ قد فرض الركوع والسجود للّه في كتابه، كما فرض أصل الصلاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين للناس ما نزل إليهم، وسنته تفسر الكتاب وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه، /وفعله إذا خرج امتثالا لأمر أو تفسيرًا لمجمل، كان حكمه حكم ما امتثله وفسره. وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما كان يأتي في كل ركعة بركوع واحد وسجودين كان كلاهما واجبًا، وكان هذا امتثالا منه لما أمر اللّه به من الركوع والسجود، وتفسيرًا لما أجمل ذكره في القرآن، وكذلك المرجع إلى سنته في كيفية السجود. وقد كان يصلي الفريضة والنافلة والناس يصلون على عهده، ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود، وبالطمأنينة في أفعال الصلاة كلها. قد نقل ذلك كل من نقل صلاة الفريضة والنافلة. والناس يصلون على عهده، ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة. وكذلك كانت صلاة أصحابه على عهده. وهذا يقتضي وجوب السكون والطمأنينة في هذه الأفعال، كما يقتضي وجوب عددها. وهو سجودان مع كل ركوع. وأيضًا، فإن مداومته على ذلك في كل صلاة كل يوم، مع كثرة الصلوات، من أقوى الأدلة على وجوب ذلك؛ إذ لو كان غير واجب لتركه ولو مرة، ليبين الجواز، أو ليبين جواز تركه بقوله. فلما لم يبين ـ لا بقوله ولا بفعله ـ جواز ترك ذلك مع مداومته عليه، كان ذلك دليلاً على وجوبه. وأيضًا، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري:/ أنه قال لمالك بن الحويرث وصاحبه: (إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما) و(صلوا كما رأيتموني أصلي) فأمرهم أن يصلوا كما رأوه يصلي. وذلك يقتضي أنه يجب على الإمام أن يصلي بالناس كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لهم، ولا معارض لذلك ولا مخصص؛ فإن الإمام يجب عليه ما لا يجب على المأموم والمنفرد. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه قال: لقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قام على المنبر وكبر، وكبر الناس معه وراءه، وهو على المنبر، ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس. فقال: (يا أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي). وفي سنن أبي داود والنسائي عن سالم البراد قال: أتينا عقبة بن عامر الأنصاري أبا مسعود، فقلنا له: حدثنا عن صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فقام بين أيدينا في المسجد، فكبر، فلما ركع وضع يديه على ركبتيه، وجعل أصابعه أسفل من ذلك، وجافى بين مرفقيه، حتى استقر كل شيء منه، ثم قال: سمع اللّه لمن حمده، فقام حتى استقر كل شيء/ منه ثم كبر وسجد ووضع كفيه على الأرض، ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه، ثم رفع رأسه فجلس حتى استقر كل شيء منه، ففعل ذلك ـ أيضًا ـ ثم صلى أربع ركعات مثل هذه الركعة، فصلى صلاته. ثم قال: هكذا رأينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلي. وهذا إجماع الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ فإنهم كانوا لا يصلون إلا مطمئنين. وإذا رأي بعضهم من لا يطمئن أنكر عليه ونهاه. ولا ينكر واحد منهم على المنكر لذلك. وهذا إجماع منهم على وجوب السكون والطمأنينة في الصلاة، قولاً وفعلاً. ولو كان ذلك غير واجب لكانوا يتركونه أحيانًا كما كانوا يتركون ما ليس بواجب. وأيضًا، فإن الركوع والسجود في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه وحين وضع وجهه على الأرض، فأما مجرد الخفض والرفع عنه، فلا يسمى ذلك ركوعًا، ولا سجودًا. ومن سماه ركوعًا وسجودًا فقد غلط على اللغة. فهو مطالب بدليل من اللغة على أن هذا يسمى راكعًا وساجدًا، حتى يكون فاعله ممتثلا للأمر، وحتى يقال: إن هذا الأمر المطالب به يحصل الامتثال فيه بفعل ما يتناوله الاسم فإن هذا لا يصح حتى يعلم أن مجرد هذا يسمى في اللغة ركوعًا وسجودًا وهذا مما لا سبيل إليه، ولا دليل عليه. فقائل ذلك قائل بغير علم في كتاب اللّه وفي لغة العرب، وإذا حصل الشك: هل هذا ساجد أو ليس بساجد؟ لم يكن ممتثلًا بالاتفاق؛ لأن الوجوب معلوم، وفعل/الواجب ليس بمعلوم، كمن يتيقن وجوب صلاة أو زكاة عليه، ويشك في فعلها. وهذا أصل ينبغي معرفته؛ فإنه يحسم مادة المنازع الذي يقول: إن هذا يسمى ساجدًا وراكعًا في اللغة، فإنه قال بلا علم ولا حجة. وإذا طولب بالدليل انقطع، وكانت الحجة لمن يقول: ما نعلم براءة ذمته إلا بالسجود والركوع المعروفين. ثم يقال: لو وجد استعمال لفظ [الركوع والسجود] في لغة العرب بمجرد ملاقاة الوجه للأرض بلا طمأنينة لكان المعفر خده ساجدًا، ولكان الراغم أنفه ـ وهو الذي لصق أنفه بالرُّغام ـ وهو التراب ـ ساجدًا، لا سيما عند المنازع الذي يقول: يحصل السجود بوضع الأنف دون الجبهة من غير طمأنينة. فيكون نقر الأرض بالأنف سجودًا، ومعلوم أن هذا ليس من لغة القوم، كما أنه ليس من لغتهم تسمية نقرة الغراب ونحوها سجودًا، ولو كان ذلك كذلك لكان يقال للذى يضع وجهه على الأرض، ليمص شيئًا على الأرض، أو يعضه أو ينقله ونحو ذلك: ساجدًا. وأيضًا، فإن اللّه أوجب المحافظة والإدامة على الصلاة، وذم إضاعتها والسهو عنها، فقال في أول سورة المؤمنين: /وهذه الآيات تقتضي ذم من ترك شيئًا من واجبات الصلاة، وإن كان في الظاهر مصليًا، مثل أن يترك الوقت الواجب، أو يترك تكميل الشرائط والأركان من الأعمال الظاهرة والباطنة، وبذلك فسرها السلف. ففي تفسير عبد بن حميد ـ وذكره عن ابن المنذر في تفسيره من حديث عبد ـ حدثنا روح، عن سعيد، عن قتادة:
|